خليفه دسوقي – أصحاب الفيل في بلاد أصحاب الفيل!
- الكاتب خليفه دسوقي
- تاريخ الإنشاءAug 15, 2018
- اسم الكاتب
أحقاً ألّا جديد هناك تحت الشمس؟ هل كان إمبراطور روما الفيلسوف “ماركوس أوريليوس” على صواب حين صرّح بأن الرجل الذي بلغ الأربعين قد شاهد كل ما يمكن مشاهدته ماضيا ومستقبلاً؟ وهل كان “كارل ماركس” مٌحِقاً حين زعم بأن التاريخ يكرّر نفسه مرّتين، مرّه كمأساة وأخرى كمهزلة؟ ما القيمة الكامنة في العناية بالتاريخ إن لم تكن قيمة العظة والعبرة؟ وهل تَصْدُق كلمة فيلسوف الجمال “جورج سانتيانا” حين يقول “إن الذين لايتذكّرون الماضي مقدّر عليهم تكراره”؟ أم أن الفيلسوف والروائي “ألدوس هكسلي” كان أصدق في رؤيته من أن “أهم درس يلقّنه التاريخ للإنسان هو أن الإنسان لا يعتبر من التاريخ”؟ أم تُرى أنه ربما كان نابليون، ذلك الذي نصّب نفسه امبراطوراً لأمة عظيمة وهو الذي لم ينله نصيبٌ من ً من عراقة عائلة أو نبالة محتدّ، على حق في ما قاله من أن “التاريخ ليس إلاّ أسطورة متفق عليها”؟ أم أنه كان يبرّر لأغراضه فقط؟ أليس من المحتمل أن أمر التاريخ ربما كان كما وصفه الصحفي الأميركي “نورمان كازينز” بأنه “حهاز إنذار مبكر” ضخم!!
هذه طائفة من الأسئلة والتأملات التي لا جواب شافيا لها ولكن خاطر من يعيش الأربعين عاما، التي قال عنها “ماركوس أوريليوس” ما قال ، يستدعيها كاتب هذه السطور فيجد أن تلك الأعوام بل وأكثر منها لم تمنحه ذرة حكمة، فضلاً عن فتح باب له لفهم الماضي وكشُف المستقبل، وربما كانت الأمور كذلك لان الفيلسوف العظيم تناسى أن ملاحظته هذه ربما كانت ستصيب كبد الحقيقه لو كان قد صرّح أن ذلك الرّجل، صاحب الأربعين عاماً الذي يقصده، لا بدّ وأن يكون فيلسوفاً مثله وربما امبراطوراً مثله أيضاً. ومع ذلك فإن قصة المغامرة الإمبراطورية المدونه أدناه شّبِّهت لهذا الكاتب وكأنها قصة من القصص التي يعرفها ويلمسها في عصرنا وزمننا هذا، صحيح أنها ربما اختلفت في زمنها كما في ظروفها وشخوصها ولكن النسبة المقصوده هنا هي تلك النسبة المنطقيه التي تحمل القصة وتسير بها، وهي ،كما شبِّه لي مرة أخرى، نفس المنطق الذي يؤدي لنفس النهايات، فهذا هو إمبراطور الحبشه الذي ركب رأسه وتسبّب في غزو بلاده في الأمس البعيد كما صدّام حسين في عراق الأمس القريب والقذافي “وزنقاته” وكما اليوم بشّار الأسد والعصابات التي تشتبك معه في صراع صفري …يبقى الرجل هو هو يكرّر نفسه ويولد من جديد…هو كلّ هؤلاء وأمثالهم من الطواغيت الكثر، وأنظر حولك تجدهم يكرّرون ظهورهم على مسرح التاريخ، بل إنهم يتصدّرونه حتى في هذه اللحظة، يريدون فرض حكم الفوضى بدلاً من حكم القانون، باسم القومية والوطنيه مرّة وباسم الدين والأيديولوجيا تارة أخرى وباسم الطائفة والقبيله مرة ثالثة، هم (أو هو) الدعوة الحية لغزو ما يزعمون أنها بلادهم.. هم الدعوة الوجودية للتدخّل الأجنبي، وجودهم يستلزم التدخل في نهاية الأمر، علوهم سقوط للدوله والمدنيه وتفسخ أكيد للمجتمع، ولذا فإن دعوة أستاذه جامعية[*]، وإفريقية، لعودة الإستعمار لبلادها لم تكن دعوة ناشز ولا صرخة في بريه. ولكن وحتى لا أطيل دعني عند هذه النقطة أدعوك لقراءة قصة المغامرة الإمبراطورية هذه:
ربما كان الغزو البريطاني للحبشة في مطلع الربع الثالث من القرن التاسع عشر(1868) من أنجح الحملات العسكرية ضد هذه البلاد وهي التي استعصت على الفاتحين والغزاة، وجعلت عثورهم على موقع قدم لهم فيها صعباً، بعيد المنال! صحيح أن بعضهم أفلح في ذلك، ولكن فلاحهم هذا كان دائماً لبرهة، كحلم أو سراب، تعود بعدها الأحوال لما كانت عليه. حدث هذا مع البرتغاليين في القرن السابع عشر وحدث مع المصريين في القرن التاسع عشر وحدث أيضا مع آخرهم وأكثرهم وحشية وجبروتاً: إيطاليا في القرن التاسع عشر و العشرين، كلّهم خرجوا مهزومون ومصابون بكسور بليغة في الأضلع، كلّهم إلاّ أصحاب الفيل من جيش الهند البريطاني، بقيادة الجنرال “اللورد نابيير”. أولئك فقط، دون الجميع فعلوها وعادوا إلى بلادهم سالمين غانمين. إن قصة أصحاب الفيل (وسترى لاحقاً لماذا أسميتهم كذلك) لهي قصة عجيبه، جديرة بأن تروى بالتفصيل ولكننا،هنا، لن نخوض فيها إلاّ بقدر مايسمح به الفضاء والوقت.
والقصة هنا، تبدأ من حيث احتجز “ثيودور الثاني”، إمبراطور الحبشة،المتعصب، سفير صاحبة الجلالة، الملكة فيكتوريا، “الكابتن دنكان كاميرون” ومبعوثها البريطاني العراقي الأصل” هرمز رسّام” مع مجموعة من أعضاء بعثات الأرساليات الأوربية من جنسيات بريطانية وغيرها، بلغوا في مجموعهم ما يقارب الأربعين رجلاً وامرأة وطفلاً؛ أخذهم الإمبراطور رهائن قيد الأصفاد لأعوام يتنقل بهم في حملاته التأديبيه لشعبه من مكان إلى مكان ليستقر بهم آخر الأمر في مرتفع “مجدلا” الشاهق وحصنها المنيع. و”مقدلا” هذه كانت عبارة عن هضبة مستوية صغيره بارتفاع ألف قدم، بطول كيلومتر ونصف وعرض كيلومتر تقريبا وتقوم هذه بدورها على هضبة مستويةعملاقة ترتفع ثمانية ألف قدم أخرى فوق سطح البحر.
تميّزت سياسة الإمبراطورية العجوز طوال تلك السنوات الأربع التي مضت على سجن سفيرها ومواطنيها، بالسكينة والهدوء بذلت فيها نوع كسول من الجهود الدبلوماسية التي كانت هي ذاتها تدرك مسبقاً أنها لن تجدي فتيلاً، ولكن معلولات ونتائج عدم الجدوى هذه ربما كان هو عين ما تسعى له الإمبراطورية، لأن ذلك، كما اتضح لاحقاً، هو ماكان يخدم أقصى مصالحها على كل حال، فبصفتها القوة البحرية العظمى في ذلك الزمان كانت هي التي تسيطر عل مدخل البحر الأبيض من الغرب في جبل طارق وكان منتظراً افتتاح قناة السويس في تلك الأيام (تم ذلك بعد شهور من غزو الحبشة) لتكتمل سيطرتها على محور البحر الأحمر، ذلك أنها كانت ذات نفوذ على مصر يجعلها تسيطر على مدخل البحر الأحمر من شماله (قناة السويس مستقبلا) في وقت تسيطر فيه فعلاً على مخرجه الجنوبي في خليج عدن بلوغاً للهند. وعلى طول خط سيادتها هذا لم يكن هناك من يبدي، أو يستطيع أن يبدي، امتعاضه من نفوذ بريطانيا العظمى فضلاً عن أن يمرِّغ أنفها في التراب بسجن موفديها ورسلها كما فعل طاغية إيثيوبيا وإمبراطورها “ثيودروس” وهو الذي بدأ صديقاً للإمبراطورية البريطانية يخطب ودها ويطلب رضاها، بل أنه، وفي جهله أن عهد الحروب الصليبية قد ذهب ومضى، حاول إغوائها لتحي تلك الحروب، فعرض التحالف عليها معه، على أن تتكفل هي بالأتراك شمالا ويبيد هو مسلمي الحبشه وما جاور الحبشة من ممالك تقع خارج سلطانه بعد أن تزوده الإمبراطورية العظمى بالعتاد والسلاح طبعاً، ولكنها نظرت للعرض، وربما وجدت أن طلب الإمبراطور “الهمجي” أمر يخرج عن سياق الإمبراطورية التاريخي، فلم تستجب، أو أنها لم ترد ذلك، فلم تُظهر لدعوته لا قبولا ولا رفضا، بل تجاهلت الرساله، فأسرّها الإمبراطور في نفسه، وضرب ضربته حين حسب أن الفرصة لاحت له ولم يدر أن الفرصة إنما تلوح لللإمبراطورية فقط، لأنها فيما يبدو كانت تنتظر السانحة طويلاً وقد استقر أمرها على تبديل الجالس على عرش الحبشة(ويفضل أن يكون ذلك بالجبرية العسكرية البريطانية مباشرة!) بصديق غيره تثق فيه، صديق لايهم أن يكون أكثر وحشية من سابقه طالما أنه لن يحاول ابتزازها بطرق صبيانية بعيدة عن المنطق كما فعل “ثيودروس”، فكانت لهذا على اتصال بـ” كاسا” رجل إقليم تجراي القوي وغريم تيودروس، (و كاسا هذا هو الذي أصبح، لاحقاً، إمبراطوراً على الحبشة بإسم “يوهنس الرابع” أو “يوحناّ الرابع” وهو نفسه الإمبراطور الذي دخل في نضال ضد المهدية التي قطعت رأسه آخر الأمر في واقعة المتمّة المشهورة) وكان همزة الوصل في هذه الدسائس هو الجنرال جوردون بزمن قبل أن ينصب حاكما للخرطوم من قبل الخديويه المصريه وقبل أن يكون هناك لأصحاب الفيل رسم أو إشارة في الخيال، وقبل زمن من أزمة الرهائن التي أخذت الإمبراطورية في إدارتها للأزمة لأربعة أعوام توجّهها الوجهة التي تريدها، فتعمل لإثارة الضجة والطبخ على نار متأجِّجة حيناً لتهدأ أخرى، فلقد كان القائلون بالحل العسكري لأزمة الرهائن يشكّلون عامل ضغط رهيب على السياسيين بما كانوا يصورونه في الصحف المتنفِّذة متهمين الإدارة الإمبراطوريه بالتقاعس علاوة على إثارتهم المناقشات المتكرّرة الساخنة في البرلمان ليتلو ذلك علو صوت أولئك الذين كانت الإمبراطورية تخشاهم وتتحسّب لهم من المتشكِّكين في جدوى دخول رجال من جيش بلادهم مغامرة بعواقب غير مضمونة في بلاد بعيدة، يعبر فيها وهاد سحيقة يبلغ عمقها آلاف الأقدام، بلاد لا جسور فيها أو طرق، ويرون أنه ربما كان من الأجدر بذل المزيد من استكشاف وسائل التعامل مع الإمبراطور الهمجي لإطلاق سراح الرهائن دون سفك للدّماء. ولكن الإمبراطورية لم تكن في وارد البحث عن وسائل ترضية الإمبراطور (الهمجي) لأن ما كانت تريد تحقيقه من مصالح يتجاوز إطلاق سراح راهائنها، فهي لم تنسى ما حدث قبل سبعون عاما من أزمة الرهائن هذه، حين رد الفرنسيون على احتلالها لرأس الرجاء الصالح وفتحها لنفسها طريقا بحرياًّ آمناً يصلها بالشرق باحتلالهم مصر على رأس جيش يقوده نابليون، الذي كان يحسب نفسه أنه يمشي على خطى الأسكندر الأكبر، وكان فرنسيو نابليون يقدّرون أنهم من هذه القاعدة سوف يهدّدون البريطانيين في الهند وربما احتلوا الهند نفسها وزادوا وفكّروا أنهم إذا ما شقوا قناةً في برزخ السويس فسيكون هذا منطلق لهم في البحر الأحمر بصلون منه إلى ما بعده من بحار فتُفتح لهم أبواب وخزائن الشرق كله. وكادوا أن يحققوا ماخرجوا من أجله لولا الأحوال الداخلية المضطربة في فرنسا وانكسارهم في مصر لفقدانهم تعاطف المصريين وشكهم فيهم بالدرجة الأولى.
والآن وقد وازنت الإمبراطورية خياراتها وحزمت أمرها فإنها أظهرت ما كانت تخفيه خلف ظهرها منذ بداية الأزمة قبل سنين، فكشفت للرأي العام نواياها في دخول تلك المغامرة وقدمتها وكأنها فكرة وليدة اللحظة، فكرة وكأنها إفراز ضغوط وتجاوزات امبراطور متبربر في حق حفنة من رعايا صاحبة الجلالة ..حرب قد يسودها عدم التكافؤ ولكنها بقصد نبيل على كل حال، هكذا بالمختصر المفيد! نعم هناك جائزة أخرى بجانب إنقاذ الرهائن والأحرى هو أنه ربما كانت تلك الجائزة الأخرى هي المعنيّ بها من المغامرة برمّتها وليست المهمة النبيله لتحرير الرهائن إلا مشهد من فصل جانبي صغير يهم الصحف والرومانسيين من قرّائها الذي ما كلّوا طوال سنين من الدق على صدورهم حرقة وحزنا على الرهائن في إفريقيا. حقاً لم تتغيّر الأمور كثيراً منذ روما فما زالت العامّة هي نفسها تلك التي لا ترى من حقائق الأمور إلاّ الخبز والسيرك..وللإمبراطوريات منهما الكثير! أما الإمبراطورية ذاتها فإنها تأنف من حسابات العامّة وترى أن الجائزة التي سوف تحشد من أجلها يجب أن توازي في قيمتها ماسوف تبذله من دم وثروة، ولن يكون ذلك إلا بتحقيق أثمن ما يمكن تحقيقه من سياسات ومصالح. وما الذي يمكن أن يكون أثمن من حرمان نابليون آخر -(متوهَّم حتى اللحظة، ولكن، من يدري غداً، إن الحكيم هو من يتخذ من أحداث الأمس نبراساً لليوم والغد)- مصادقة زعماء محلِّيين يتناقض الإستقرار مع مصالحهم، فيسبب لها القلق على طرق سيادتها في البحر الأحمر، وما أحراها إذن الآن، وبهذه المناسبة، أن تُنصِّب صديقاً لها امبراطوراً، يحل محل الأمبراطور الغريب الأطوار الذي يعاديها، إن التأمين الأقصى للملاحة لسفنها في البحر الأحمر وصولا للهند، درة تاج الإمبراطورية ومصدر فخرها، مصلحة ما بعدها مصلحة. ثم أن هناك تلك الحقيقة الجديدة التي أفرزتها الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865) التي كانت قد تسببت في قطع واردات القطن عن مصانع النسيج الضخمة في الجزر البريطانية مما اضطر الإمبراطورية استبداله بالقطن المصري ومن ثم إدمانه والإعتماد عليه والتشجيع على التوسع في زراعته وهو ما يستلزم ضمان خط النيل الذي لا ينبع من أي مكان سوى من مملكة وعوالم الملك الهمجي، اليست هذه أيضا مصلحة أخرى؟. إن ضرب وإزاحة الإمبراطور المتمرّد لرمية تصيب بسهم أكثر من هدف واحد، وإن المرء ليتساءل عند هذه النقطة إن لم يكن للإمبراطورية قدرة فائقة على استشراف المستقبل واستبصاره، فهي سترى نفسها وهي تحتل مصر في العام 1882 ومعه السودان (الذي كان المصريون بدورهم يحتلونه)، بعد أربعة عشر عاماً فقط من غزوها الحبشة، وسوف تجد نفسها أيضاً بعد ثلاثين عاماً أو أكثر قليلاً(1902) وهي تقايض، بصفتها الولية على مصر، إيطاليا التي لم يكن لها أية ولاية أو صفة على الحبشة، تقايضها على مياه النيل وتوقع مع الأخيرة الإتفاقيات التي أصبحت محل جدل شديد ومصدر شحناء بين مصر وإيثيوبيا في وقتنا هذا، وسوف تجد الإمبراطورية نفسها وهي ترى صدق حدسها وترى الفرنسيين يحتلّون ما كان يعرف بـ(أوبوك= جيبوتي حاليا) إلى الشرق من الحبشة.
وهكذا أصدرت الإمبراطورية أوامرها لجيشها في الهند بإعداد العدة للغزو الذي يقول عنه ” الأستاذ آلان مورهيد في كتابه ” النيل الأزرق” من ترجمة الأستاذ إبراهيم أبو الريش:
“لم يحدث في التاريخ الحديث أن أعدت حملة استعمارية بالطريقة التي اعدت بها الحملة البريطانيه على إيثيوبيا في سنة 1868 ، فقد جرت منذ البداية و حتى النهاية في جو من العظمة والأبهة والصرامة لم تعرفه غير الحفلات الملكية في العصر الفيكتوري ولم تشذ عنها في أي شيئ، حتى في الخطب الجوفاء التي تنتهي بها هذه الحفلات. ومع ذلك فقد كانت مغامرة رهيبه بكل معانيها، فهذا القطر لم يدخلة غاز منذ مئات السنين وطبيعة الأرض وحدها كانت كافية لأن تنذر بخطورتها. أضف إلى ذلك أنه لم يكن هناك أي تكتم عن هذه الحملة كما كان الحال في حملة نابليون على مصر فكل شخص كان يعلم عنها وعن وجهتها وغرضها وذلك قبل عدّه أشهر من الشروع فيها، فقد ناقشتها الصحافة بالتفصيل واتضح أن الرأي العام رغم تعاطفه مع الأسرى لم يكن متحمّسا لها.”
وكلّفت الإمبراطورية الضابط اللاّمع في جيشها في الهند، الجنرال “اللورد روبرت نابيير ” بتدبير وقيادة بعثتها العسكرية لفك أسر رعاياها الذين يعانون في مرتفعات الحبشة الباردة. كان ضابطاً كفؤاً ومهندساً بارزاً صقلته التجربة فلقد خاض حربين ضد السيخ في الهند وكان على رأس الجيش الذي دخل بكين فاتحا في نهاية حرب الأفيون الثانية في عام 1860.
وتقدّم الضابط المكلّف بتقديره لكامل عمليتة الجديدة إلى مقام الإمبراطورية في منتصف أغسطس 1867 فجاءت على هذا النحو:
12000 من الجنود وضعف هذا العدد للإسناد والخدمة وعشرون ألفاً من الدواب المختلفة مثل البغال والجمال لحمل المعدّات الخفيفة وعدد كبير من الأفيال المدرّبه بلغت أربع وأربعين لحمل المدافع الثقيله ومائتي سفينة بخارية وشراعية لنقل القوات وقدَّر استمرار العمليات مدّة ستة أشهر. ولكن الواقع اختلف قليلاً فارتفع عدد الجند في الجيش إلى 62200 منهم 13088 مقاتل و 49112 لجهاز الإسناد والإمداد.
وعند بدء العمليات كان يلزم الجيش الجبّار بنية تحتية متينه تسهِّل له الأنتقال بعُدده إلى داخل المرتفعات الحبشية من الساحل ويعود بها إليه في طريقه للهند مرة أخرى، فكان أول ما قام به هو إنشاء ميناء عصري برصيفين وخط ترام داخلي يستقبل فيهما لوازمه القادمة على ظهر المراكب من الهند وبريطانيا، ومدً الجيش خط حديدي كامل،ينقل به جنده ومعدّاته، أتى به معه من الهند بكل ما يشتمله من لوازم: قضبان وفلانكات وقطارات بخارية وعربات مقطورة وامتد ذلك الخط من الساحل في “زولا” حتي سفح الهضبة وبطول عشرين ميلاً. واقيمت المخازن ومدّت خطوط التلغراف لمسافة 650كيلومترا من القاعدة في الساحل وحتى المرتفعات الحبشية الشاهقة. وجلب الجيش الغازي معه جهازي تقطير أمريكيين ضخمين لتحويل المياه المالحة لمياه صالحة للشرب وأُعِدّت ثلاث سفن وجهِّزت كمستشفيات لاستقبال الجرحى. ويبدو أن كل هذا قد أغرى باحث ألماني معاصر إلى القول بأن هذه الحرب كانت إرهاصا للحرب التى ألفها الناس الآن وهي “الحرب المصنِّعة”، إن جاز التعبير، وربما كان المعنى المقصود من ذلك هو دمج الصناعة في الحرب.
وكان للصحافة مكان بارز في هذا الغزو العجيب فكان هناك مراسلو الصحف والرسامين الذين كانوا يرسلون تقاريرهم لصحفهم في لندن ونيويورك، كان بينهم الصحفي الأميريكي مورتون ستانلي المشهور بمغامراته في منابع النيل الأبيض بحثاً عن الدكتور ديفيد ليفنجستون مبشر الإرسالية الذي كان قد انقطعت أخباره. ولم ينس المتحف البريطاني أن يدعِّم حضوره بإرسال مندوب عنه مهمته القيام ببعض الحفريات وليشتري ما له قيمة أثرية من الغنائم التي سيُسْتولي عليها!
وكما ترى فإن خط إمدادات الجيش طويلة جداً وتقطع طول بلاد يفترض منها العداء. ولكن الإمبراطورية كانت تعلم أنه لن يكون أدنى مقاومة لتدخّلها، فالإمبراطور تيودروس كان منذ سنه 1866 لايهتم بحكم الإيثيوبيين قدر اهتمامه بإبادتهم كما قال بحق الأسترالي، آلان مورهيد! ومن هنا فإنه لم يكن من العجب أن التمرّد والعصيان قد انتشر في أنحاء البلاد. بل إن الأمور كانت قد انزلقت ووصلت لحد ظهور ثلاثه من الأقوياء المنافسين للإمبراطور أهمهم كاسا الذي سيصبح الإمبراطور القادم بمساعدة مضمرة من حكومة صاحبة الجلاله. وكان تيودروس يغالي ويزيد في الطغيان كلما زاد التمرد حتى أخذت آخر أدواته في التفسخ وذلك أن أفراد جيشه أخذوا في الهرب منه وأخذ جيشه في التناقص بشكل مطّرد يوماً بعد يوم. وعليه فإن الإمبراطورية كانت تعلم علم اليقين أن الإمبراطور الهمجي لن يرفع اصبعاً أمام عينيها مقاومةً، ليس لغياب الإرادة فيه ولكن الإستطاعة هي التي كانت الغائب الأكبر.
وهكذا كان فلقد وجد الجيش ترحيباً وتعاوناً حسناً من الأهلين وخاصة وأن منطقة زولا وكل شريط البحر الأحمر والسهول الممتده حتى سفح الهضبة التابع لإريتريا الآن كان يخضع للإدارة المصرية الصديقة لبريظانيا.
وبدأ الجيش مسيرته من الساحل في اتجاه مرتفع مجدلا حيث يقبع الإمبراطور الهمجي وأسراه في ترقب وانتظار. ومع أنه لم يكن هناك ثمة وهم فيمن ستدور عليه الدوائر فإن من كان على أحرّ من الجمر لملاقاتهم هو الإمبراطور نفسه كان يعرف المصير الذي ينتظره وكان باستطاعته الدفع به بعيداً وتجنّبه منذ وقت طويل ولكنّه بقي متصلّبا متعجرفاً للنهاية، لقد كان حقّاً شخصية درامية عجيبه، جيش يغزو بلده وأقصى ما كان يتلهف عليه هو أن يرى كيف يتصرّف هذا الجيش، جيش الأوروبيين، في الحرب… هذا ما صرح به مراراً لأسيره هرمز “رسّام” وغيره. لقد كان طاغية من طراز عجيب. لم تكن لجيشه العتيق المسلّح بالبنادق القديمة ذات المدى القصير والتى يتم حشوها من أمام الماسورة أية فرصة مع جيش مسلح ببنادق من طراز سنايدر السريعة والتي يتم حشو رصاصها من الخلف ومدافع جبال ثقيله تحملها الأفيال، صحيح إن الأمبراطور كان قد استطاع بتعاون من بعض الألمان الذين كانوا في خدمته صناعة مدفع عظيم ولكنه لم يستطع نقله إلى هضبة الحصن فهوي في الوادي دون ذلك، وما زال المدفع للآن نصف مطمور في الوادي أسفل المرتفع، وأبت بلدية أديس أبابا إلاّ تكريم ذلك المدفع المجندل فأقامت نموذجاً مقلّداً له في أحد ميادينها.
ووصل جيش الإمبراطورية مقصده “مجدلا” فكانت المعركة الأخيرة التي حدثت عند سفح المرتفع بعد ظهر يوم 10 أبريل 1868 وعرفت باسم معركة “أروجي”. كانت معركة قاسية قصيره امتدت لفترة ثلاث ساعات فقط. وفي الحقيقة فإن وصفها بالمعركة فيه شيئ من التجاوز والمبالغه لأن ماحدث في ذلك اليوم كان أشبه بمذبحة رهيبه للمحاربين الأحباش أكثر منها معركة حربية بمعناها الصحيح. فمن بين السبعة آلاف جندي حبشي الذين دفعهم مليكهم للهجوم على الجيش الغازي قتل مابين 700و800 منهم كما جرح ما بين 1200 و 1500 آخرون. كان ذلك مقابل عشرون من جرحى الجيش البريطاني مات منهم إثنان لاحقاً، وكان هذا من بين 4000 جندي اشتركوا في المعركة. وأخيراً فعل الإمبراطور الطاغية ما كان يجب فعله منذ وقت طويل ….أطلق سراح أسراه وأرسلهم للمعسكر البريطاني بعد المذبحة مباشرة، ثم أنه في نهاية الأمر أبى إلاّ أن يكون وفيا لطبيعته الدرامية فكان موته رمزاً وتلخيصا لعلاقته ببريطانيا إذ أخذ مسدّسه ذو الفوهتين والذي كانت الملكةفيكتوريه قد أهدته له في بدء صداقتهم التي لم تدم، وأدخل الماسوره في فمه وهو يقف وسط مساعديه وضغط على الزناد لينهي بذلك مأساته ومأساة شعب الحبشه معه.
وفي صباح اليوم التالي لم يكن هناك من يقف أمام الجيش الجبّار فصعد الجنود لمرتفع مجدلا ودخلوا الحصن ومجلس الملك عنوة وفتحت أبواب الخزينه التي كانت تحتوي على كل ما نقله “تيودروس” من عاصمته “دبري تابور” التي خسرها للثائرين عليه قبل مجيئه لمجدلا، وكانت هذه في الحقيقه كنوز وتحف رائعة فقد كدّس فيها تيودروس كل مخلّفات ملوك الحبشة النفيسة كما يقول آلان مورهيد في كتابه. أما الصحفي الأميريكي مورتون ستانلي فقد فصّل وتحدّث عن كؤوس وتيجان من الذهب الخالص وعن أقداح وحلي مرصعة بالأحجار الكريمة وعن هدايا من ملوك أجانب كأواني الصيني والخزف وصناديق من الشمبانيا وخمور أخرى وخيام حريرية ومعاطف من جلد الأسد والسروج المطعمة، ويضيف أن الجنود والمدنيون على السواء كانوا يتنازعون هذه الأشياء ويتشاجرون عليها، وأن أسوء من اشتركوا في عملية النهب كان أولئك الأسرى الأوروبيين الذين كانوا قد عادوا إلى “مجدلا” بعد أن اقتحمتها القوات البريطانية. ولكن المنهوب الذي مازالت النخبه الإيثيوبيه تعمل وتصر على استرداده هو ما تعتبره هذه النخبة، التي تصر على مسيحية إيثيوبيا المطلقه وبالتناقض مع حقائق الدستور والسيسلوجيا والتاريخ والجغرافيا، هو سجل التطور الروحي للشعب الحبشي في مئات المخطوطات والصلبان التي تعود للعصور الوسطى مع أشياء أخرى تعود للكنيسه الحبشية. وكان هناك منهوب من نوع آخر! نوع إنساني هو ابن تيودروس الوحيد “ألمايو” ذو السبعة أعوام، أخذوه معهم إلى الهند ومنها إلى بريطانيا حيث عاش الوحده حتي سن العشرين حين توفي.
ولقد فرح الشعب الحبشي بهلاك الطاغية ولكنه كان ذلك الشعب الذي كان مضطراً أن يعيش هناك في الحبشة في ذلك الزمن وليس النخبة التي تعيش بيننا الآن وترفع الإمبراطور المهووس لمرتبة الشهداء والقديسين. وكان من ضمن من فرح بهلاك تيودروس وزوال ملكه مسلمو الحبشة الذي كان قد غالى في اضطهادهم بل أنه في نهاية الأمر، ولو لا أن الأجل عاجله، لنفذ مرسومه عليهم للإختيار بين التّنصر أو الرحيل عن أوطانهم وهو الذي جاء وجلس على العرش على جمجة صهره ” الرأس علي” . ولكن فرحتهم لم تدم كما سترى!
وعندما غادر جيش الإمبراطورية عائداً من حيث أتى، بعد إتمام مهمته، لم يظهر أي اهتمام بما قد يخلّفه عند مغادرته، مع أن الإمبراطورية، وهي سيّدة العارفين، لا بد وأن تعلم أن جيشها يخلّف ورائه فراغاً قد يقتتل عليه الراغبون في ملئه ويموت فيه الأبرياء. ولكن عند القاء نظرة فاحصة فإنه ربما كانت الحقيقه أن بريطانيا قد رتّبت الأمور بحيث تجري كما جرت وليس بطريقة أخرى! وإلاّ فلماذا يترك الجيش الغازي جزءا من سلاحه الحديث لصديقها القديم “كاسا”. لقد كانت تلك الأسلحة هي التي توجت كاسا إمبراطوراً باسم “يوحنّا الرابع”. ويوحنّا فور انتهاء تدعيم وإرساء حكمه هو من أقدم على تنفيذ سياسة غريمه “تيودروس”، تلك السياسة التى لم يمهله العمر لتنفيذها، فأخذ الإمبراطور الجديد بتنفيذ وصايا سابقه فتفوق عليه وأخذ في إفراغ الحبشة من المسلمين وزايد سابقه فأضاف اليهود إليهم، وهي قصة معروفة على كل حال، وانتهى ذلك العهد بمقتل يوحناّ على يد دراويش المهديه.
[*] هي الدكتورة/ احلام حسب الرسول وهى استاذة تاريخ فى واحدة من الجامعات السودانية , وهى نفسها التى اعلنت عن تشكيل تنظيم سياسى جديد يطالب بعودة الاستعمار الى بلدها السودان , السلطات السودانية اودعتها فى مصحة للامراض النفسية والعصبية بعد اسابيع قليلة من اعلانها عن حركتها السياسية التى اطلقت عليها اسم حركة (حمد) وهى اختصار ل حركة المطالبة بانتداب دولى
شارك:
فيسبوكRedditPinterestTumblrWhatsAppالبريد الإلكترونيالرابط