بقلم: ادريس ابوبكر – المملكة المتحدة
لبليــن أصــل المنشــأ والموقــع
بقلم: ادريس ابوبكر – المملكة المتحدة
تتعدد سبل البحث عن الأصل والمنشأ، وفي تعددها تقوم الأشكالية، لا سيما إذا كان المقصد يتعلق بإبراز أحوال روحية وفكرية أو سيكلوجية جماعية، تميز جماعة ما عن أخرى وتكرسله الوجود على رقعة من الأرض عرفت به وعرف بها.
شأن البلين في هذا هو شأن الشعوب قاطبة، إذ أن تاريخ الإنسانية وحركتها لا يزالان يعتمدان على الحدس والإستقراءات التقريبية لبقايا آثار الحفريات والإيعازات الخبرية القديمة، التي لا يمكن أن تكون مرشداً موثوقاً لفهم المسارات التاريخية والتنوعات البشرية التي عرفها هذا الكون.
السكان:
من المؤكد أن سكان إرتريا وماحولها ينتمون إلى سلالات تنحدر من أصول ثلاثة: نيلية – حامية – سامية ويعتقد أن أول من سكن هذه المنطقة هي المجموعة النيلية حتى مجيء المجموعة الحامية / الكوشية القادمة من أرض النوبة جنوب مصر التي إحتلت هذه المنطقة في العام 3000 – 5000 قبل الميلاد تقريباً، مما دفع السكان الأصليين إما إلى النزوح خارج تلك المنطقة أو إلى التقوقع في مناطق محددة فيها.
وعند إنهيار سد مأرب قبل الفي عام نزح كثير من قبائل تلك المنطقة إلى هذه الرقعة واستوطنوا فيها واستطاعوا أن يفرضوا وجودهم نظراً لما تتمتع به هذه المجموعة من مظاهر ثقافية وآلية زراعية متقدمة.
ويمثل المجموعة النيلية اليوم في إرتريا البازا والكناما، والثانية أي الحامية البلين والعفر والساهو والحدارب بالإضافة لأقوام أخرى في القرن الأفريقي كالأغو – والأرومو – سيدامو، والصوماليين وغيرهم.
ويمثل المجموعة الثالثة السامية التجري والتجرينية والأمهرا وغيرهم في المنطقة. ويجدر بنا هنا الإشارة إلى أنه لا يوجد اليوم في إرتريا أي فواصل واضحة بين هذه المجموعات الثلاث أي المعروفة في علم الإنثربولوجيا – الأصول البشرية الطبيعية صافية العرق.
بل أنها مجموعات لغوية تتكلم لغات من النوع الحامي والسامي أو النيلي واعترتها تداخلات وتحولات من مجموعة إلى أخرى. يقول نايدل في كتابه التركيب السكاني في إرتريا – العناصر والقبائل – بأن لا التجمع السامي أو الحامي يشكلان عناصر عرقية صافية، إذ أن هذه المجموعات قد تطعمت على مر الأجيال وتصاهرت مع بعضها البعض وامتزجت بالتجمع الزنجي هذا إلى جانب مصادر أخرى يصعب تحديدها. وهكذا فإن كلمة عنصر سامي – حامي – نيلي، لم يعد لها معنيً كبير الأهمية. 1
أصل البلين بين الواقع والإفتراض:
إذا كان أمر الأصول الأولى للأقوام والجماعات ومنحدرهم السلالي والموطني يعد من باب الظنيات والتقديرات، لأنها دوماً بحاجة إلى سند علمي يوثقها ويؤكد صحتها، فإنه من المؤكد أن البلين وموطنهم قد عرف إفتراضات مختلفة – عزت نسبهم إلى هذا الأصل تارة أو ذاك مرة أخرى، دون أن تتوافر لتلك الإفتراضات شواهد قطعية أو أي سند موثق يؤكد حقيقتها – ولعل مرد ذلك تقليب وجهة النظر التي ترى فيهم مجموعة عرقية وليست مجموعة لغوية يتنوع فيها العرق.
ولقد وردت في هذا السياق روايتان حول حركتهم التاريخية:
الأولى: تشير إلى أنهم إنحدروا من إقليم لاستاالواقع فيما يعرف الآن بإثيوبيا، وكانوا يتحركون في المنطقة الواقعة بين النيل والبحر الأحمر. وأهل هذه الرواية يستندون على وجود أسماء لمناطق البلين في تلك المنطقة إضافة لتقارب اللغة وأوجه الشبه في العادات والتقاليد.
وأما أهل الرواية الثانية والتي تعتبر الأرجح – يقفون على نفس الدليل ويضيفون عليه بأن إتجاه ترحالهم جاء من ناحية مصر والنوبة إلى لاستاوليس العكس، ويستدلون على ذلك بالآثار التي أقاموها في لاستا ويشيرون إلى أنها صورة مصغرة دالة على المعمار الفرعوني، ويعزون هذا التفوق المعماري دليلاً على قدومهم من تجربة إنسانية متقدمة على ما كان سائداً في الإقليم. 2
وكما أسلفت فإن الرواية الأولى تعتمد على وجود تماثل في الأسماء وتقارب في اللغة وتشابه في العادات والتقاليد، ورغم صعوبة نفي هذه الحقائق أو تجاوزها إلا أنها لا تسعف الباحث في كشف الأصل عن الفرع – بعبارة أخري إنها لا تحمل أجوبة قطعية عن الأسئلة مثل: هل موطن البلين الأصلي هولا ستاأم بقوس؟ وهل أرض البلين في أرتريا أم كان في مرتفعات إرتريا؟ وأيهما هاجرإلى أرض الآخر؟ وهل كانت المنطقة الواقعة بين بقوس في إرتريا ولاستا في إثيوبيا تحت سيطرتهم حتى مجيء السيل السامي وأحدث قطيعة بين الطرفين وحال دون تواصلهم؟ أم أن هناك هجرات جزئية تمت لمجموعة بعينها من الجنوب للشمال أو العكس؟ لاتوجد حتى الآن أجوبة شافية لهذه الأسئلة الصعبة.
The Blin of Bogos يقول مكئيل قابر في كتابه كما أنه لا تتوفر لدي كل من مازنجر، نايدل و القاتاي وغيرهم أدلة دامغة تثبت ما ذهبوا إليه خاصة أن إحالاتهم تستخدم عبارات الشك مثل: يعتقد – يقال – أو تدّعي هذه المجموعة بالإنتماء إلى إقليم لاستا وغيرها من العبارات التي إن لم تثير الشك فإنها لا تأكد حقيقة.
لأنها رؤية تعاني من مصاعب بنيوية يصعب الأخذ بها – مع التسليم الأخذ بها اذا ثبتت صحتها. فما الذي يضير أن يكون أصلي من ذلك الإقليم أو غيره. أقول ذلك لأنني أقابل كثير من أبناء جلدتي يتحسسون من هذ الانتماء ولعل ذلك نابع من خلط هذ الموضوع بالانتماء الديني والسياسي فوجود اختلاف فى الاعتقاد الديني أو المصلحة السياسية لا ينفي أن يكون أصلي من ذلك الأقليم أما الرواية الثانية والتي تعتبر الأرجح لإستنادها على أدلة شبه واضحة وهي:
* المدن التي أقاموها هي صورة مصغرة من المعمار الفرعوني – وهذا دليل على قدومهم من تجربة إنسانية متقدمة خلافاً على ما كان سائداً في الإقليم.
* المخطوطة التي عثر عليها في الحفريات الأثرية في مصر في العصر الحديث والتي تروي على لسان رمسيس حاكم مصر آنذاك “أن أقوام يسمون بلين هاجمونا فهاجمناهم ثم شتتناهم” وكلمة البلين في هذه المخطوطة Blin والبلين Blen والناطقين بالتقرايت Bilen مكتوبة بالنطق البليني، فالناطقين بالتجرينية ينطقونها وهذا دليل آخر على أن ترحالهم أتى من النوبة بعد تشتتهم – والأرجح أنهم سكنوا في المناطق المحاذية للنيل وبحر القلزم (البحر الأحمر) وذلك لقربهما من بلاد النوبة – وبإعتبار أن التجمعات السكنية كانت تتركز في مناطق الأنهار والبحار ثم تأخذ في التمدد والأنتشار نحو الجنوب حتلى وصلت إلى لاستا فيكون الأصل الشمال (إرتريا) وليس الجنوب – هذا ما يبرر وجود أسماء خالدة بلغة البلين في مرتفعات إرتريا حيث لا يستوى أن تترك مجموعة عابرة لكل هذا الإرث في منطقة كانت خاضعة للحضارة السامية المتقدمة.
إشارات:
* يشير المؤرخين والباحثين دوماً إلى عدم رصدهم لهجرات جماعية من الجنوب (لاستا) إلى الشمال بما فيها إرتريا بل بالعكس فكل الهجرات التي رصدوها كانت من الشمال إلى الجنوب.
* إن لغة البلين هي من حيث الأصل والبناء من عائلة اللغات الحامية الوسطى التي إعتبرها علماء اللغات من أقدم اللغات إن لم يكن أهلها من أقدم السكان.
الخلاصة:
* إن بلين هي مجموعة لغوية وليست عرقية تشكلت عبر ردحاً من الزمن من عناصر منحدرة من أصول حامية وسامية كونت منها في المحصلة النهائية هذا الخليط البشري.
* وللأسباب سالفة الذكر فإن أصل ترحال البلين بدأ من الشمال للجنوب وليس العكس كما هو شائع لدي العامة، لكن لا يعني هذا بأي حال من الأحوال بأنه لم تتم هجرات جزئية إرتدادية إلى الشمال من الجنوب أو العكس.
أي كانت الروايتان فكلتاهما لا تنفيان الوجود التاريخي وإن إختلفتا في إتجاه الحركة، ولا غرابة أن نجد تفاعلهم عبر التاريخ مع كل المراحل التي غطت تفاصيل المنطقة.
حاشية:
هي محاولة لرصد تاريخ هذه المجموعة البشرية – غير أنها لا تنفي تاريخهم الحديث وما تشكل من ملامح جديدة “كبقية المجموعات الإثنية والعرقية واللغوية التي تشغل أماكن التواجد الحالي” وما وحد بينهم من ثقافة هي نتاج تلاقح مع عناصر البيئة ومكوناتها من أرض وبشر وما نشأ بينها من صراع. فهم كغيرهم أبناء ماهم عليه الآن، والتاريخ لا يسلخهم من الحاضر الذي ساهموا في تشكيله، ولا يستطيع أي كان أن يحاسبهم أو غيرهم بزرائع التاريخ.
المراجع:
نايدل في كتابه التركيب السكاني في إرتريا – العناصر والقبائل
محمد سعيد القدال تأريخ السودان الحديث
The Blin of Bogos مكئيل قابر
شارك هذا الموضوع: من موقع فرجت